الخميس 30 ذو القعدة 1432 هـ الموافق لـ: 27 أكتوبر 2011 07:35

- شرح كتاب الذّكر (24) حديث البطاقة

الكاتب:  عبد الحليم توميات
أرسل إلى صديق
الحديث الرّابع عشر:

عنْ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ العاصِ رضي الله عنه أنّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قال:

(( إِنَّ اللهَ يَسْتَخْلِصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا ؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ ؟

فيقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ ؟

فيَقُولُ: لَا يَا رَبِّ.

فَيَقُولُ اللهُ تعالى: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ.

فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا " أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُفَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ.

فيَقُولُ: يَا رَبِّ ! مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ ؟

فَقَالَ: فَإِنَّكَ لَا تُظْلَمُ.

فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كَفَّةٍ، وَالبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتْ السِّجِلَّاتُ، وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَةُ، فَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ )).

[رواه التّرمذي، وقال: " حديث حسن غريب "، وابن ماجه، وابن حبّان، في "صحيحه"، والحاكم، والبيهقيّ، وقال الحاكم: " صحيح على شرط مسلم "].

شرح الحديث:

لمّا بيّن المصنّف رحمه الله تعالى ثِقَل كلمة "لا إله إلاّ الله"، أراد أن يذكر ما يبيّن ذلك يوم القيامة، فأتى بحديث البطاقة.

وقد اعتنى العلماء بهذا الحديث حتّى أفردوه بالتّخريج في جزء حديثيّ، وهو للإمام أبي القاسم حمزة بن محمّد بن عليّ بن العبّاس الكناني رحمه الله المتوفّى سنة 357، وألّفه في العام الّذي توفّي فيه، نسأل الله تعالى أن تكون من علامات حسن خاتمته، وقد طبع الجزء بتحقيق الشّيخ عبد الرزّاق بن عبد المحسن العبّاد حفظه الله.

- قوله : ( إن الله يستخلص ) أي يميّز ويحتار، ومنه إخلاص العمل أي: تمييزه عن غيره وجعله لله.

- ( فينشر ) بضمّ الشّين، أي: فيفتَح، ومنه قوله تعالى:{يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِه} [الكهف: من الآية16].

- ( سِجِلاًّ ): بكسرتين فلام مشدّدة، أي: كتابا، ومنه قوله تعالى:{يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: من الآية104].

والصّحيح في معنى ( السجلّ ) ما صحّ من رواية الإمام الطّبري عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّ السجلّ هي الصّحيفة، ونصّ على ذلك مجاهد، وقتادة، وغير واحد، واختاره ابن جرير، لأنّه المعروف في اللّغة، فعلى هذا يكون معنى الآية:" يوم نطوي السّماء كطي السجلّ للكتاب أي: على الكتاب " بمعنى المكتوب، كقوله تعالى:{فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، أي: على الجبين، وله نظائر في اللّغة.

ولا يصحّ ما يروى في كتب التّفسير أنّ السجلّ ملكٌ من الملائكة ! أو أنّه أحد كُتّاب الوحي ! ومن قال ذلك اعتمد آثارا موضوعة وضعيفة جدّا، وهذا ممّا أُنكر على أبي داود رحمه الله، حيث روى عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنهما قال:" السِّجِلُّ كَاتِبٌ كَانَ لِلنّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم " !

قال ابن كثير رحمه الله في "تفسيره":

" وقد صرّح جماعة من الحفّاظ بوضعِه، وإن كان في " سنن أبي داود "، منهم شيخُنا الحافظ الكبير أبو الحجّاج المزّي فسح الله في عمره، ونسأ في أجله، وختم له بصالح عمله، وقد أفردت لهذا الحديث جزءا على حدته ولله الحمد.

وقد تصدّى الإمام أبو جعفر بن جرير للإنكار على هذا الحديث وردّه أتمّ ردّ، وقال: لا يعرف في الصّحابة أحد اسمه السجلّ، وكُتّاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معروفون، وليس فيهم أحدٌ اسمه السجلّ، وصدق رحمه الله في ذلك، وهو من أقوى الأدلّة على نكارة هذا الحديث "اهـ.

وقال ابن القيّم رحمه الله في "تهذيب السّنن":

" سمعت شيخَنا أبا العبّاس ابنَ تيمية يقول: هذا الحديث موضوع، ولا يُعرف لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتبٌ اسمه السجلّ قطّ، وليس في الصّحابة من اسمه السجلّ، وكُتّاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معروفون، لم يكن فيهم من يقال له السجلّ. قال: والآية مكّية، ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كاتب بمكّة. والسجلّ هو الكتاب المكتوب، واللاّم في قوله ( للكتاب ) بمعنى "على"، والمعنى: نطوي السماء كطي السجلّ على ما فيه من الكتاب، كقوله:{وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} وقول الشّاعر:

....................... فخرّ صريعا لليدين وللفم[1]

أي: على اليدين وعلى الفم، والله أعلم ".اهـ

- ( كلّ سجلٍّ مثلُ مدِّ البصر ) أي كلّ كتاب منها: طولُه وعرضُه مقدار ما يمتدّ إليه بصر الإنسان.

- ( ثمّ يقول ): أي: الله سبحانه وتعالى: ( أَتُنْكِر من هذا ؟) أي: هذا المكتوب ( أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي ) والكتبة جمع كاتب والمراد الكرام الكاتبون ( الحافظون ) أي لأعمال بني آدم ( أَفَلَكَ عذرٌ ؟) أي: فيما فعلته: هل هو سهو، أو خطأ، أو عن جهل ؟ ونحو ذلك.

وفي هذا تأديبٌ للعباد أنّه ينبغي البحث في حال المُخطِئ، وإزالة الموانع، وإقامة الحجّة قبل الحكم عليه.

- ( فيقول: بلى ) أي: لك عندنا ما يقوم مقام عذرك ( إنّ لك عندنا حسنةً ) أي: واحدة عظيمة مقبولة.

- ( بطاقة ) قال في "النّهاية":" البطاقة رُقعة صغيرة يثبت فيها مقدار ما تجعل فيه ...

قيل: سمّيت بذلك؛ لأنّها تُشَدّ بِطاقةٍ من الثّوب، فتكون الباء حينئذ زائدة ".

وقال في "القاموس":" البطاقة ككتابة: الرّقعة الصّغيرة المنوطة بالثوب الّتي فيها رقم ثمنه، سمّيت بذلك لأنهّا تُشدّ بطاقةٍ من هدب الثوب "اهـ.

- ( احضُر وزنَك ) أي: الوزن الذي لك، أو هو الميزان ليظهر لك انتفاء الظلم وظهور العدل وتحقّق الفضل.

- ( في كَفّة ) بكسر الكاف أو بفتحها.

- ( فطاشت ) أي خفَّت، ومنه طائش، أي: خفيف.

- ( ولا يثقُلُ ) أي: ولا يرجح ولا يغلب ( مع اسمِ الله شيءٌ ) والمعنى: لا يقاومه شيء من المعاصي، بل يترجّح ذكر الله تعالى على جميع المعاصي.

من فوائد الحديث:

- بيان فضل كلمة ( لا إله إلاّ الله )، وثقلها، وفيه ردٌّ على من يضعِّف بعض أحاديث الأذكار لكثرة الأجر الوارد فيها.

- بيان فضل من مات على التّوحيد، وأنّه كما أخبر تعالى:{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ }.

- وبيان فظاعة الشّرك، حيث إنّ كلمة (لا إله إلاّ الله) على ثقلِها قد نقضها المشرك، فصار الشّرك بالله أثقل منها، فلم تنفع قائلها !

- بيان سَعةِ رحمة الله عزّ وجلّ، الّذي سبقت رحمته غضبه.

والله أعلم.



[1] وصدره:" هتكتُ له بالرّمح جيب قميصه ....."، واختُلِف في نسبة هذا البيت على أقوال.

عبد الحليم توميات

آخر المواضيع:

الذهاب للأعلي